عندما قدّم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رؤيته على طاولة قصر الصنوبر التي جمعت مسؤولين لبنانيين، لم تُعجب بعض الموجودين في الجلسة. أراد الرئيس الفرنسي أن يذهب اللبنانيون بإتجاه حكومة وفاق وطني، بينما كان هؤلاء يتوقّعون أن يطلب ماكرون منهم تأليف حكومة حيادية او مستقلة. ثم أن الرئيس الفرنسي طالب بتأجيل كلّ الملفات الخلافية كي يتفرّغ اللبنانيون لوقف الإنهيار الإقتصادي.
جاء اتصال الرئيس الأميركي دونالد ترامب برئيس الجمهورية ميشال عون، بناء على دفع فرنسي، ثم إنعقاد مؤتمر المانحين، أيضاً بناء على طلب وسعي ماكرون، يصبّ في ذات السياق: وقف التدهور اللبناني.
كل ذلك يعني ان فرنسا أرادت ان تلعب دوراً في لبنان بتفويض غربي ومباركة روسية. لماذا؟ لأن الأميركيين الذين يتركون هموم الإقليم للتفرّغ لساحات أجدى لهم في صراعهم مع الصين، يفضّلون الفرنسي الذي يسعى للحفاظ على وهج نفوذه في حوض المتوسط. هنا يكمن السبب الرئيسي للإندفاعة الباريسية تجاه بيروت: انه السباق بين فرنسا وتركيا في شرق المتوسط. هذا ما جعل الأتراك يرسلون نائب رئيس الجمهورية الى بيروت في اليوم التالي لزيارة ماكرون، فقدم عرض مساعدات تركية عديدة ومهمة اساسها اعادة بناء مرفأ بيروت. سبق وان دار السباق بشأن حدود اليونان وقبرص، وحول ليبيا ومصر. الأهم بالنسبة لفرنسا هو لبنان. تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً تسعى الدولة الفرنسية للحفاظ على دورها في لبنان لإعتبارات عدة: لبنان الفرنكوفوني لا يترك "الام الحنون" التي يرتبط بها المسيحيون الموارنة بشكل رئيسي.
لكن المسيحيين يعيشون اليوم في مساحة نزاع سياسي بين تيار رئيس الجمهورية ومعارضيه: "القوات" و"الكتائب". بينما المفارقة ظهرت بدخول الكاردينال الماروني البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى مساحة النزاع من باب إسقاط الحكومة وإجراء إنتخابات نيابية مبكرة. واذا كان مفهوماً سياسياً وجود سباق بين التيارات المذكورة، وتنحّي تيار "المردة" جانباً لحسابات رئاسية عند سليمان فرنجية، فإنّ اللافت هو تدخّل بكركي لفرض نفسها اللاعب الفاعل على الساحة، إمّا نتيجة الدور التاريخي الذي اعتادت على لعبه، واما بسبب تجاهلها من قبل الفرنسيين الذين يدفعون نحو تسوية سياسية سريعة بلا أخذ هواجس ومضمون خطاب بكركي بعين الإعتبار، واما بسبب القلق الماروني الذي حصل بعد تفجير مرفأ بيروت وتضرّر منطقة مسيحية بشكل كبير.
بجميع الحالات، لمجرد رفع الراعي خطابه الذي دفع وزراء ونواب للإستقالة، فإن ذلك يؤكد وجود خلاف ماروني-ماروني واضح تبدو البطريركية طرفاً فيه، ويترك صداه عند باقي المكونات المسيحية الأخرى. مما يفسّر تفرّج باقي الطوائف، من دون لا استقالات نيابية ولا تحركات لا شيعية ولا سنية ولا درزية. وهل يقبل السنّة مثلاً إقالة مؤسسة يرأسونها اي مجلس الوزراء بطريقة الفرض، بينما لا يقبل الموارنة إقالة رئيس الجمهورية بالطريقة ذاتها؟
إلى أين؟
يعزز التصعيد من فرص التسوية المرتقبة عبر بوابة الحكومة. أتت دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري لعقد جلسة نيابية الخميس المقبل لتؤكد أن هناك محاسبة للحكومة على تقصيرها في شأن ما حصل في مرفأ بيروت. هكذا يمكن الحفاظ على عمل مؤسسات الدولة، من دون استفزاز يأخذ ابعاداً طائفية. كان الإنتظار هو من أجل لململة الضحايا وتضميد الجراح والتقاط الأنفاس قبل تحديد مسار المساءلة. من هنا تُفسّر مسارعة وزراء للإستقالة قبل جلسة الخميس. لكن ماذا عن الحكومة؟ لا يبدو أن بوادر الإتفاق موجودة حول طبيعتها وشكلها المقبل. مما يُرجح في حال إستقالة الحكومة الحالية الذهاب نحو تصريف الأعمال لحين بتّ أمر حكومة يريدها الرعاة الدوليون حكومة وفاق وطني، كما عبر ماكرون في بيروت.
ما يُطمئن أن الرئيس الفرنسي حدد موعد عودته الى بيروت الشهر المقبل لبت أمر الحكومة الجديدة تحت طائلة "إعادة النظر بعلاقة فرنسا بلبنان". يشكّل هذا التهديد حثاً للبنانيين، لتسريع الخطوات في إيقاف تدهور لبنان الى مكان لا ترغب به عواصم العالم، "كي لا يقع البلد تحت سيطرة الأقوى". وهذا ما نبّه منه الفرنسيون عندما قالوا للأميركيين: الفوضى في لبنان تعزز سيطرة "حزب الله" على البلد.
ما يجري الآن ميدانيا وسياسياً، أو في الشارع المسيحي تحديداً، يدعو الى بتّ أمر تسوية سياسية سريعة تراعي هواجس المكونات الطوائفيّة والسّياسية. هذا ما يسعى اليه الفرنسيون. لا حلّ في لبنان بإبعاد أو عزل أحد. هكذا علمتنا التجارب: الحل بإشراك الجميع.